أندلس نيوز ـ د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
أرسل لي أخي وصديقي عبدالله مهنا رئيس مركزأئمه مساجد الميريا سلسله مقالات لاخيه وصديقه الد كتور محمد طلال بدران الداعيه الفلسطيني الاسلامي عن النبي صلى عليه وسلم ، وهذه هي سلسلة المقالات.
ربيع الأولى شهر مولد الهادي البشير السراج المنير، فهو شهر غير كلّ الشهور، وربيعُ غير أيّ ربيع، ولد خير البشر وأشرفهم وأكرمهم وأطهرهم وأزكاهم وأعظمهم، ولد في ربيعٍ الأولى خير مبعوثٍ وخير رسولٍ وخير نبي، وُلد من دانت له الأمم، وُلد من آمنت به العَجَم، وُلد سيّد الخلق وحبيبُ الحق، وُلدَ الرحمة المهداة والنعمة المُسداة، فبعثتك رحمة للعالمين، هدى الله بك من الضلال العرب والعجم والعالمين،، وأنار بك الأرض من ظلمات الجاهلية، وأحيى بك من الأرض من الموات، كيف كان العالم يا سيّدي قبل بعثتك، كيف كان حال العربك قبل رسالتك، كيف كانت مكة قبل مولدك، ثم كيف صاروا بنور هدايتك؟، صلى عليك الله ربي وسلم،
يا من كان حديثك رحمة، وصمتك رحمة، وعملُك رحمة، وسيرك بين الناس رحمة، وأمرك رحمة، ونهيُك رحمة، ووجهك رحمة، ورسالتك رحمة، ونبوءتك رحمة، سيرتك رحمة، سريرتك رحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، لقد رحِمت الصغير، ووقّرت الكبير، وأكرمت الفقير، ويسّرت العسير، وأنقذت الأنثى من شرّ مصير، صلى عليك الله ربي يا أيها الهادي البشير.
في ظلال هذا الشهرِ الأزهرِ الأنورِ شهر ذكرى ميلاد صفوة البشر، سوف اتناول صبيحة كل يومٍ إن شاء الله، جانبًا من حياة العرب في ظلال مولد النور، حتى الثاني عشر من ربيعٍ الأولى يوم ذكرى مولد الهادي محمد ابن عبد الله وما الذي تغير في حياة العرب على وجه الخصوص، وفي حياة الإنسانية على وجه العموم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}:
واقع العرب السياسي في فترة جاهلية العرب
عاش العرب في قبائل متناحرة، وكانت الأوضاع السياسية لدى الممالك العربية في شبه جزيرة العرب متضعضعةً وفي أدنى درجات التدني، خاصةً أنَّ الحياة كانت مبنيّة ومُنقسمة ما بين أسيادٍ وعبيد، فالعزّ والجاه من حقّ الأسياد، والظلم واقع على العبيد، ولم يكن باستطاعة العبد أن يُبدي الشكوى والمَظلَمة، لأن نظام الحكم كان يتّصفُ بالاستبداد والتسلّطِ والحقوق فيه مهدورة.
كان نمط حياة العرب نمط بدويّ، وقد كان البدو يعيشون في حالة صراعٍ مستمرٍ بينهم، وبين قسوة البيئة والظروف القاسية التي وُجِدوا فيها، ممّا اضطرهم بشكلٍ دائمٍ إلى التنقل المستمر سعيًا وراء الأمطار وخصوبة الأرض طلبًا للعيش لهم ولحلالهم من الإبلِ والبقرِ والغنمِ والمعِز، وقد ترتب على هذا الأسلوب ونمط الحياة أن يتجمع أفراد قبائلهم في وحدات سكانية قامت على أساس صلة الدم والنسب والعِرق، وسُمّيت هذه الوحدات بأسماء عديدة ومختلفة يدل كل منها في الغالب على حجم الوحدة التي يُطلق عليها الإسم، وقد كان من أكثر هذه الأسماء والمصطلحات شيوعًا إسمُ: العشيرة، والرهط، والقوم، والقبيلة، والحي.
يُعتبر الولاء المُطلق للعشيرة أو الرهط أو القبيلة أساسا لا نقاش فيه، وأن كل إنسان غير منـتمٍ إلى هذا الأصل المشترك لأفراد العشيرة أو الرهط أو القبيلة كان يعتبر عدوًّا لهم، وأن مثل هذه المجتمعات ترتكز إلى دواعي الحاجة الغريزية أو الفطرة دون أن تعي ضرورة الحياة الاجتماعية، وأن مبدأ الانتماء الى العرق والقبيلة الغريزي أهمّ بكثيرٍ من الفِكرةِ.
نتج عن هذا الأساس التشتت والتمزّق والتناحر بين قبائل العرب، مما أضعفهم فكانوا تبعًا إما للفُرس في شرق الجزيرة العربية أو للروم في شمالها.
وكما يقول الباحثون: فلِكَيّْ يُعتبر مجتمع ما مجتمعاً سياسيا فإنه لابد من أن يتوفر فيه عدة عناصر أساسية وأهمها عنصران:
1 ـ التقيّد الإقليمي: أي إرتباط الجماعة بإقليم معين ارتباطًا مُفضِيا إلى ظهور مفهوم الوطن بما يتبعه من شعور الأفراد بواجب المحافظة على الوطن والدفاع عنه.
2 ـ ظهور السلطة السياسية: التي تحتكر القوة الفعلية والشرعية (القانونية) في هذا المجتمع احتكارًا يمكنها من إقرار السلام أو الحرب والعمل على استمرار التقدم في المجتمع الذي تقوم فيه، وهذان العنصران لا يمكن الادعاء بتوافرهما في التجمعات البدوية والحياة القبَليّة في جزيرة العرب، وذلك بسبب التنقّل الدائم المستمر لقبائل العرب، وغياب السلطة السياسية لأن كل شيء كان يخضع للحاجات الأساسية توفير الطعام والشراب، والمرعى، قبل بعثة الإسلام. ـ
جغرافيا وتاريخ العرب قبل ميلاد الإسلام
جاهلية العرب.
منذ ما بعد عهد إسماعيل عليه السلام وإلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليهما وسلم، أطلق المؤرخون على هذه الفترة مصطلح: -الجاهلية- لأنها تدلّ على الحالة التي كان يعيشها العرب من حيث عبادة الأوثان، وجهلهم بالشرائع السماوية، وبمعرفة الله الواحد سبحانه، وجاء هذا الّلفظ -الجاهلية- بعد مجيء الإسلام حيث تمّ اطلاقه على هذه الفترة التي عاش فيها العرب في شبه الجزيرة العربية قبل بعثة الهادي البشير عليه الصلاة والسلام.
لم تكن خارطة بلاد العرب قبل مجيئ رسالة الإسلام صغيرة ، بل كانت مترامية الأطراف حيث تقع في الجزء الجنوبي الغربي لقارّة آسيا، فهي شبه جزيرة يحيط بها الماء من جهات ثلاث؛ فيحدّها البحر الأحمر من الجهة الغربية، ومن الجهة الشرقية الخليج العربي، أمّا من الجهة الجنوبية فيحُدّها المحيط الهندي، ومن الشمال فتمتد من فلسطين ابتداءً من مدينة غزة وتمرّ عبر البحر الميت ثم إلى دمشق حتى تصل حدود نهر الفرات شرقًا، ولذلك فإن موقعها هذا موقع إستراتيجي بالغ الأهمية للعالم فهي في وسط الكرة الأرضية، حيث تربط بلاد حوض البحر المتوسط مع جنوب وشرق آسيا، كما تتصّل بأفريقيا عن طريق صحراء سيناء، ولذلك فهي طريق حيوي للحركة التجارية.
بسبب نمط الحياة الجاهلي الذي كان يعيش فيه العرب قبل الإسلام فإن العرب الجاهليين لم يكن لديهم الكثير من المعلومات عن أسلافهم، وعمدوا إلى نقل ما لديهم إلى المسلمين بعد بزوغ فجر الإسلام، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت في قديم الزمان، وجاء ذكر بعض هذه الأقوام الذين هلكوا قبل الإسلام، كما أشار بشكل واضح إلى عباداتهم للأصنام التي عبدوها سكان شبه الجزيرة العربية، وعلماء التاريخ قد استدلوا من خلال الآثار والحفريات التي اجروها الى وجود معلومات عديدة عن تاريخ العرب في الجاهلية، وأكثر ما كان بارزًا في تاريخهم، الغزوات، ومعاقرة الخمور، وعبادة الأصنام، ووأد البنات، كنماذج سلبية من حياتهم، وفصاحة لسانهم من خلال الشعر الجاهلي الذي يدلّ على ذلك، وشدة فصاحة القرآن تدل أيضا على ذلك حيث جاء فصيحًا إلى أبعد حدود منسجمًا مع ما كانوا يتمتعون به من الفصاحة التي أشرت إليها، وكانوا يتصفون أيضًا ببعض مكارم الأخلاق التي كان الكثير منهم يتمتعون بها، ومنها: الشرف والعفة والغيرة والأنفة والنزاهة والمروءة وغيرها من الصفات.
الواقع الاجتماعي للعرب في فترة الجاهلية
ما ميّز عصْر العرب في الجاهلية فقرهم للمستوى الفكري والثقافي والمعرفي مقارنة بالعصور الأخرى كالعصر الروماني، والعصر اليوناني، والفارسي، وعصر الهنود، فقد تميّزت هذه العصور بازدهار العلوم والآداب والفلسفة، كفلاسفةِ اليونان وحضارة البيزنط، وقوة الفرُس وغيرهم، ولم يُؤثرْ عن العرب سوى نبوغهم بالشعر بالدرجة الأولى، وسرد القصص والأمثال، ويضاف إلى ذلك علم الأنساب والأعراق، لقد كانت حياة العرب في الجاهلية كما ذكرت في مقالة الأمس موزعة على رقعة شاسعة من الأرض، في صحراء جزيرة العرب والتي تتسم بالمناخ الجاف الصحراوي، وشُحّ الأمطار خصوصًا في مناطقِ الداخل، وكان ذلك سببًا رئيسًا في عدم استقرارهم في رقعة معينة للالتفات الى بناء حضارة ما، إلا في جنوب الجزيرة في مناطق اليمن، وبعض المناطق الأخرى مثل يثرب (المدينة المُنوّرة) ومكة المكرّمة وبعض الأماكن الأخرى في الحجاز واليمامة حيث كانت تعيش في هذه المناطق قبائل عربية حياة أقرب إلى التحضّر كقبيلة قريش، والأوس والخزرج في يثرب “المدينة المنورة”، وقبائل ثقيف في الطائف، وقبائل الغساسنة في بلاد الشام، وآل نصر في الحيرة، أما باقي قبائل العرب في جزيرة العرب مترامية الأطراف فلم يُعرف عنهم سوى دوام الترحال، والسعي خلف المرعى والكلأ، وقد وصل بهم الترحال حتى إلى خارج محيط الجزيرة العربية نحو بلاد العراق في الشرق، وبلاد الشام في الشمال، وأرض الحبشة في الغرب.
عندما قارنت العرب بغيرهم من الشعوب هذا لا يعني أن تلك الشعوب كانت في مستوى رفيع من العلم والمعرفة بشكل عام، فقد تفاوتت تلك الشعوب فيما بينها في هذا الجانب، ولكنَّها تتلاقى في النهاية مع جاهلية العرب.
أما الذي ميّز جاهلية العرب عن غيرها، العصبية القبَلية والتعصب الأعمى للدم والعِرق والنسب، وكذلك كان المُلكُ والحُكمُ والسلطةُ يُؤخذ بالوراثة، حيث يتناقلها الأبناء عن الآباء بالوراثة، وقد كان في حياة العرب الاجتماعية أنواع كثيرة من الزواج ما أنزل الله بها من سلطان، فقد انتشر الفجور والزنا بشكل كبير حتى أنه كان عدد كبير من الرجال يدخلون على المرأة الواحدة وعندما تحمل وتلد تقوم هي باختِيار والدِ وليدِها كما تشاء من بينهم، وكانت المرأة تعيش حالة ظلمٍ دائمٍ في طبقات المجتمع بشكلٍ عامّ، حيثُ كان الرجل مثلًا يرثُ زوجةَ أبيه، أما هي فلا ترثُ شيئًا بل تُعدُّ المرأة من سقط المتاع؛ -مجرد حاجة من الحاجات- ولا يسمح لها بالوصول إلى أيّ منصبٍ مهمٍ أو حتى الحديث في شؤون القبيلة، وطامّة العرب الكبرى كانت في وأدِ البنات خوفًا من العار والفقر، باستثناء بعض الحالات القليلة التي يتمّ فيها تكريم الأنثى خصوصًا في طبقة السادة، كخديجة بنت خويلد وهند بنت عتبة وغيرهما القليل…يتبع الواقع الاقتصادي
أخلاق العرب في الجاهلية
تباينت اخلاق العرب في زمن الجاهلية، بين بعض المكارم والمآثر وبين القبيح منها خصوصًا في ظلّ غياب العقيدة الصافية النقية، والخوف من الله عز وجل، وكان من هذه الأخلاق المنحرفة على سبيل المثال لا الحصر شرب الخمور ولعب الميسر والقِمار، بكل ما يتبعهما من شرور، قال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) – سورة المائدة: الآية رقم: 90- وأكل الرّبا، ودفن المولودة وهي حيّة خوفًا من العار، حيث كانوا يعتبرون المولودة بنتًا من العار الإبقاء عليها، وقد ذمّ القرآن الكريم فعلهم المشين هذا بقوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) -سورة النحل الايات 57.58- وقوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ) -سورة التكوير: الاية: 8- والنبي الكريم قد أشار إلى بعض أخلاق الجاهلية الفاسدة وحذّر أُمَّته من بعضها بقوله: “أَرْبَعٌ في أمَّتِي مِنْ أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُوهُنَّ: الفَخْرُ في الأَحْسَابِ، والطَّعْنُ في الأَنْسَابِ، والاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّياحَةُ”، وكذلك انتشار الفساد والفواحش، والعيش بنمط الحياة الحيوانية المُزرية القوي يأكل الضعيف حيث كان قانون الغاب هو السائد، وصفحات التاريخ تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً، وبعضها الآخر دام مائة سنة لأسبابٍ ودوافع تافهة جدًا، وانتشرت بينهم العداوات والأحقاد وقد جاء أشمل وصف قرآنىّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله في قول اللّه تعالى:(وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) – سورة آل عمران، الآية: 103- ولا أريد أن أطيل في هذا المقام، واعتقد أنه ليس خافيًا على أحد ما كان من العرب من أخلاق قبيحة قبل مجيئ الاسلام ولو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي، ولم تسطَع اشعتُها الباعثة على الحياة، على عقولهم وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين أي أثر، ولتكرّرت مقولة العرب البائدة مرة اُخرى! الذين لم يبقَ منهم أثر.
وقد جاءت رسالة الإسلام لتُصوّب الانحرافات الفكرية والعقائدية والاجتماعية والخُلقية، وتجمع ولا تفرّق، وتعزز مكارم الأخلاق التي كان ينتشر منها في حياة العرب، وبالعموم جاء الإسلام فأخرجهم من الظلمات إلى النور.
الواقع الاقتصادي للعرب في فترة الجاهلية
لم يُعرف أَن كان للعرب أيّ نشاطٍ صناعيٍ سوى ما كانت تغزله نساؤهم، من الصوف والجلود وما كانُوا يحيكونه ويقومون بدبغه في أرضِ اليمن جنوبًا وفي الحيرة شرقًا؛ ـ الحيرة مدينة تاريخية قديمة تقع في جنوب وسط العراق وهي عاصمة المناذرة وقاعدة مُلكهم- وفي الشام شمالًا ويقومون بذلك فيما عُرِف برحلتي الشتاء والصيف، والقليل منهم من كان يشتغل بالزِّراعة لقلّة الأمطار وجدبِ الأرض، وكانوا يعملون أيضًا بمهنة الرَّعي فهي المهنة التي كانت منتشرة ورائجة، في الوقت الذي كانت تُعتبر مهنة شاقة لقلةِ الكلأ ونُدرةِ العشب لشحّ الأمطار، ولهذا توجّه العَرَبُ نحو العمل بالتِّجارةِ، فكانت الوسيلةٍ الأساسية لكسب الرِّزقِ والعيش لقبائلهم، فكانوا يخرجون صيفًا في رحلة الصيف نحو بلاد الشام شمالًا، وفي رحلة الشتاء نحو أرض اليمن جنوبًا، حتى أن الله تعالى ذكر ذلك في كتابه الكريم في سورة قريش حيث قال: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ).
كان للعرب أسواقًا لتصريف بضاعتهم ومتاجراتهم مثل سوق عُكاظ، وذي المجاز، ومجنة، وهذه أشهر ثلاثة أسواقٍ للعرب مع تواجد غيرها من الأسواق ولكنها أقلّ شُهرة، مع الأخذ بعين الاعتبار التهديدات التي كانت تهدد تجارتهم وأسواقهم بسبب الحروب المستمرة والشرسة بين قبائلهم، ومن هذه القبائل من كانت لا تعرف لها حرفةً سوى قطع طريق القوافل ونهبها وسلبها والاعتداء عليها، وكانت تزدهر تجارتهم فقط في الأشهُر الحُرُم التي كانوا يعظمونها ويحرّمون فيها القتال والغزو والسلب والنهب.
كان مبدأ تجارتهم يعتمد على التعاطي بالرِّبا، خصوصًا قبائل اليهود التي كانت تعيش في بعض المناطق في جزيرة العرب مثل يثرِب (المينة المنورة) ويبالغون في التعاطي بالربا مبالغة شديدة، ولم يكونوا يعتبرونه حرامًا أو عيبًا أو سوء خُلُقٍ، إنما كانوا يتعاطونه كتجارة محضة، وكأنه أمر طبيعي بكل ما تحمل الكلمة من معنى!. بشكلٍ عامٍ كان هذا أبرز ما نشِط العرب في القيام به في جزيرة العرب.
باختصار أن بلاد العرب لم يكن فيها نشاطٌ اقتصادي ذو قيمة تُذكَرُ بسبب ما غلب عليهم من البداوة والعيش في البوادي القاحلة إلا ما كان في بلاد اليمن والتي تميّزت بالخصوبة وجمال الطبيعة، ولا سيما أيام سد مأرب الذي بناه السبئيون لحجز الأمطار والاستفادة منها حيثُ ازدهرتِ الزِّراعةُ والفِلاحةُ بصورةٍ عامّة وقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم إذ قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سورة سبأ، الآية رقم: 15) ولكنّهم لم يشكروا وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله فسلبهم الله هذه النعمة فخرِب سدهم، وأجدبت أرضهم (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) سورة سبأ ، آية رقم: 16).
الحياة الدينية للعرب في زمن الجاهلية، حالُ مكّة المُكرّمة
في مقالة الأمس بدأت حديثي حول حياة العرب الدينية في العصر الجاهلي، واستكمالًا لما بدأت حديثي به في الأمس أتمم الحديث حول هذه القضية الخطيرة في حياة الناس، والتي تؤثر على كاملِ سلوكه وتصرّفاته ومنهجه في الحياة، وذكرتُ أن الجزيرة العربية كانت تعجّ بالآلهة الصنميّة والشّركيّة والكفريّة والكتابيّة، فسادَ فيها الظلم والانحراف والشذوذ الفكري والفُرقة والتمزّق والحروب الطاحنة لسنين طويلة، ولكنّ أهل جزيرة العرب لم يكونوا يعيبوا على أنفسهم ما يعبدون فلكل قبيلة اله يُعبد وصنمّ يُقدّس.
أما مكّة المكرمة بالتحديد فقد ذكرتُ أن الأصنام فيها كانت تغطي مساحة باحات الحرم المكي المُشرّفة، حيث كان لها ثِقلٌ ديني كبير في نفوس القبائل العربية فكانت تُعتبرُ مزارًا ومحجًا لهم، وكان لها شُهرة عظيمة لمكانتها الدينية والتي جاءت من بقايا دين اسماعيل عليه السلام الذي رفع قواعد البيت الحرام مع أبيه إبراهيم عليه السلام، ولكنّها حادت عن التوحيد وغلّفها الشّرك والكُفر وعبادة الأصنام التي كانت هي العبادة الرّائجة في قبائل العرب وخصوصًا في مكّة المكرمة، والتي كانت تُعتبر بمثابة عاصمة الجزيرة العربية حيث كانت مهوى الأفئدة ومحجّ العرب، وأحد أهم أسواقهم، وفيها قبيلة قريشٍ أعظم قبائل العرب وأشرفها حسبًا ونسَبا حيثُ كانت تملك سقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام، وكان لها دارٌ يُطلقُ عليها دار النّدوة، وهي بمثابة برلمان مكة وحكومتها حيث منها يتم إدارة شؤون مكة المكرمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيًا وأهمها دينيًا.
كان عدد الأصنام المنتشرة في ساحات الحَرم حول الكعبة يصل الى 360 صنما لها سَدَنَة وخُدامًا يرعونها طوال العام حيث كانوا يعتقدون أن هذه الأصنام تُقَرِّبُهم من ربِّهم؛ أي واسطة بينهم وبين الله تعالى، وقد ذكر القرآن الكريم في أكثر من موضعٍ هذه القضية لأهميّتها وحساسيّتها في حياة الانسان وخصوصًا في حياة العرب وعلى وجه التحديد في مكة المكرّمة ومن هذه الآيات قوله تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (سورة الزمر، الاية: 3) فهم إذن يؤمنون بالله، ولكنهم يُشركون معه أصنامهم التي لا تضرُّ ولا تنفع.
الحياة الدينية للعرب في زمن الجاهلية
المشكلة الحقيقية للعرب لم تكن في الصنم الذي كانوا ينحتونه من الحجارة، ويصنعونه من الخشب، أو يُشكّلونه من التمر، ويزينونه ويضعونه في واجهات البيوت، ويملؤون به ساحات الكعبة المُشرّفة، ويقدمون له القرابين والنّذور، ويسجدون له ويُهمهِمونَ حوله كهمهمة الأحبار، المشكلة كانت في الصنم الذي تغلْغَلَ في قلوبهم وتربّع فيها كعجل بني إسرائيل الذي أُشرِبوه في قلوبهم، ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة، 93).
فمعظمهم في الجاهلية كانوا من عبدَة الأصنام والأوثان، وكانوا يطلقون عليها من الأسماء الكثير، ومنها من يؤنّثوها ومنها من يُذكّروها من أهم أوثانهم وأصنامهم التي عرِفت في الجاهليّة: الَلات، والعُزّى، ومَناة، وهُبَل، فقد كانوا يقدّمون لها الذبائح والقرابين كما ذكرت، ولكن لم تقتصر عبادات العرب في زمن الجاهلية على عبادة الأصنام والأوثان بل أنه في بعض المناطق في جزيرة العرب كانوا يعبدون القمر، ومنهم من كان على دين النصارى وآخرون كانوا على ديانة اليهود ومنهم من تأثّر بالفرس فعبد النّار في المناطق المحاذية لبلاد فارس، وقسم منهم من كانوا على الحنيفيّة التي يعبد أتباعها الله وحده، وغيرها العديد من المذاهب والديانات المختلفة، وقد اتخذت قبائل للعرب أصناما مختلفة فلكل قبيلة صنم مُسمّى، ويجعلون لهذه الطواغيت الصنميّة بيوتًا كانوا يُعَظّمونها كتعظيم الكعبة، وكان لها سدَنة وحِجاب، وكانَ يُهدى لها ويُنحر لها كما يُهدى للكعبة المشرّفة، مع اعترافهم وإقرارهم أن للكعبة فضل عليها جميعًا، ولذلك كانت قبائل العرب تضع لها في ساحات الكعبة المشرفة صنمًا لها وعندما يحُجّون لها لقداستها عندهم كانت كل قبيلة تقدم قرابينها لصنمها المُعظّم لديها حول الكعبة البيت الحرام.
إنتشرت كذلك الكهانة بين العرب فدخل عليها الدجل والخداع والاحتيال، وأكل أموال الناس بالباطل فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: “كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ؛ – في فمه- فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ.
بقي هذا الأمر في الجزيرة العربية على حاله، الكلٌّ يَتَّبع ما يراه مناسبًا لنفسه وقبيلته، والغريب أنه يكن هناك جدال أو نقاش أو صدام بين أتباع الديانات والرسالات وبين عابدي الأصنام والأوثان والأحجار، حتى جاءت رسالة الإسلام التي حرِّكَت الركود العقائدي الذي طال أمده في جزيرة العرب فاجتمع الجميع لمحاربتها بكل ما أوتوا من قوّة.
مكة وأبرهة في عام الفيل
سُمّيَ عام الفيل بهذا الاسم كونه العام الذي جاء به أبرهة الأشرم النصراني من أرض اليمن ليهدم الكعبة المشرفة، وجاء بالفيَلة لهدمها، حيث لم يعهدُ الناس من قبل حربًا يتم استخدام الفيَلة فيها.
مكةُ المكرمة كانت على حالها موطن قريش وغيرها من أشرف قبائل العرب، واكتسبت مكانتها وشُهرتها من خلال مكانة البيت الحرام، الذي كان العرب يقصدونه للحجّ اليه وللتجارة حوله في مكة، والحجّ إليه كان أحد مظاهر بقايا دين اسماعيل عليه السلام مع خليط من معتقدات الشّرك وعبادة الأصنام كما أسلفت فيما سبق من المقالات، وتجاوت مكانة وشُهرة البيت الحرام ومكة البقاع ووصلت الى بلاد الروم وبلاد الفُرس، وقد عرف هذه المكانة أهل الكتاب من اليهود والنّصارى كما جاء في كتبهم التي بشّرت بمجيء أحمد عليه الصلاة والسلام، فأخذوا يرقبون ويتهيؤون لهذا الحدث الذي أظلّ زمانهم بكثير من الإشارات التي كانت معروفة لديهم.
حجُّ قبائل العربِ إلى مكة المكرمة في كلّ عامٍ أغاظ أبرهة بن الصباح الحبشي، وأطلق عليه أيضاً أبرهة الأشرم (وهي كلمة لاتينية:Abramus آبراموس وتعني إبراهيم) وأبرهة هذا هو قائد عسكري من مملكة أكسوم حيث أعلن نفسه ملكا على حِميَر. حيث حكم بلاد اليمن والحجاز، وهو مسيحي متديّن اشتهر بقيامه ببناء كنيسة ضخمة عظيمة في مدينة صنعاء وهدفه من بنائها كان تحويلُ حجّ الناس عن مكة إلى مدينة صنعاء وبالتحديد إلى الكنيسة التي أطلق عليها إسم القلّيْس، وكذلك فقد اكتسب شهرته لقيامه بحملته العسكرية نحو مدينة مكة المكرّمة بهدف هدم الكعبة، وكان ذلك في نفس العام الذي ولد فيه النبي محمد صلّ الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول قبل53 عامًا من الهجرة، الموافق لشهر إبريل نيسان من العام 571 مضت على ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد فشلت حملته هذه فشلًا ذريعًا وهُزم هزيمة نكراء رغم استعانته بالفيَلة على غير العادة في قتال وحروب ذلك الزمان، كما سيأتي في مقالة الغد بشيئٍ من التفصيل إن شاء الله، وبهزيمة أبرهة انتهى حكم الحبشة على أرض اليمن نهائيًا، وذلك بالغزو الفارسي لليمن في عام 575م أي بعد هلاكِ أبرهة الأشرم الحبشي بأربعة أعوام.
وجاءت لقب أبرهة -الأشرم- حيث قاد أبرهة هذا جيشًا من قبل وقام بحرب حاكم اليمن الحبشي كذلك، وكان اسمه (أرْياض) ودارت معركة طاحنة بين الجيشين الحبشيين حيث قام أرياض بضرب أبرهة ضربة قوية بسيفه أصابته في أنفه فقُطع نصفه وهذا هو سبب تسمية أبرهة بالأشرم، وبعد أن احتدّت شدة القتال بين أرياض وأبرهة تغلّب أبرهة على أرياض وقام بقتله، وهزم جيشه وأصبح أبرهة حاكم اليمن الوحيد، وكان هذا في زمن حاكم الحبشة النّجاشي.
هجومُ الأشرمِ على مكة يُحبِطه الطير الأبابيل
يزحف هذا الأشرم إلى مكة حاملًا معه كل الحقد والحسد والعتاد والعُدة والجند ومصطحبًا الفيَلة، آتٍ من أرض اليَمنِ واضعًا أمامه هدف واحد وهو هدم الكعبة المشرفّة، بهدفِ صرفِ الناس عنها واتخاذهم من القُلّيس محجًا جديدًا، وكان في طريقِ زحفه نحو مكة المكرمة يقتل ويسفك دماء القبائل العربية التي سمعت بمسعاه لهدم الكعبة، وقامت بعض القبائل تقاومه لثنيه عن تحقيق مراده.
هذا الأشرم سمع عن مكة الكثير الكثير ولم يأتها من قبل، ولا يعرف طريقها ومن أجل تحقيق مراده يعتمد على أحد خوَنِ العرب، من قوم ثمود قوم نبيّ الله صالح ويُدعى أبو رغال ليكون الدليل العربي لجيش أبرهة، بعد أن رفض الجميع عرضَ أبرهة الأشرم سوى هذا الخائن الملعون، وعندما وصل الى وادي المغمس؛ -يقعُ غرب مكة المكرمة ويُسمّى أيضًا بالوادي الأخضر- فلما أنْزَلَ أبرهة بهِ هلك أبو رغال هناك، وقُبِر في المكان، ورجمت قبره العرب فكل من مر بجانب قبره كان يقوم بواجب الرّجم وفيه يقول الشاعر :
وارجُم قبره في كل عام // كرجم الناس قبر أبي رغال
ثمّ سيطر أبرهة على مئتي رأس أبل لعبد المطلب جدّ الرسول الأكرم، وأرسل رسولا لأهل مكة، وعندما جاء رسول أبرهة الأشرم اليها دلّوه على عبد المطلب بن هاشم، وبلّغه قول أبرهة، فقال له عبد المطلب: “واللَّه ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللَّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه، فواللَّه ما عندنا دفع عنه”.
ثم سار معه إلى أبرهة، فلما رآه أبرهة أجلّه ووقّره، وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما، فنزل أبرهة عن سريره، وأجلسه معه على البساط، وسأله عن حاجته، فقال: “حاجتي أن ترُدّ عليّ قطيع بعيري التي أصبتها لي”، فتعجب أبرهة، وقال: “أتُكلّمني في مئتي بعير لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه”؟! فقال له عبد المطلب: “إني أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربٌ سيمنعه عنك”، قال أبرهة: “ما كان ليمتنع مني”، قال عبد المطلب: “أنت وذاك”، ثم رجع وأتى البيت ومعه نفر من قريش، وأخذوا بحلقة باب الكعبة يدعون اللَّه، ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
قدِم المجرم أبرهة الأشرم لاستكمال ما جاء من أجله، فقام بتوجيه الفيل نحو الكعبة، ولكنه امتنع عن المسير، ورفض أن يتحرك إليها، وإذا وجّههُ الى الجهة المعاكسة سار سريعًا، وبينما هو على هذا الحال يتقدم بجيشه لهدم بيت الله الحرام، وإذ بالسماء قد امتلأت بأعداد هائلة من الطيور، وكان كل طير منها يُمسك في منقاره ومخالبه عدداً من الحجارة الصغيرة، حيث تم إلقاؤها جميعاً على جيش أبرهة، فاخترقت تلك الحجارة أجسادهم ودمرتهم تدميراً، وهلك جيش أبرهة كله، وأصيب أبرهة بحجارة الطير الأبابيل وما هلك إلا بعد أن تساقط جسده أنمُلة أنمُلة فظل حياً الى أن رجع الى صنعاء كالفرخ الصغير، وانصدع قلبه عن صدره فمات لعنه الله، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (۱) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (۲) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (۳) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥). وهكذا أسدِل الستار على هذا المشهد، ليولد في هذا العام محمدًا صلى الله عليه وسلم.
أشْرَقَ الْكَوْنُ بِمَوْلِدِهِ، صلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
بعد نزيفِ دماءِ العربِ، وهزائم العرب، وإهانة العرب، وإذلالِ العرب، واستباحة حرُماتِ العرب، وأهانة مقدّساتِ العرب، وتمزّقِ العرب، وتبعيّتهم المُذِلّة للفرس عبدة النار، وللروم المشركين، وبعد فُرقتهم وشتاتهم، وانهيار مجتمعاتهم، وتخلّفهم علميًا ومعرفيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا واجتماعيًا، وقتلهم أولادهم خشية العالَة والفقر والإملاق، ووأدهم بناتهم خشية العار، وُلِدَ خير البشر، وُلِد الهُدى، وُلِد النور، وُلِد السراجُ المنير، حتى أنّ البشريّة بأسرها وجدت في ذلك المولد حياة جديدة تنتهي فيها جميع الشرور والآثام، والأحقادِ والضغائن، وتبدأ في ترسيخ قيَم العدالة والمساوة بين جميع الخلق من البشر، فالتقى الأسوَدُ مع الأبيض والأحمر مع الأصفر، والسيّد ودمع العبد، وتبدلّت قيَمُ التفاضلِ بين البشر، فأصبح ميزانها التقوى، قال الهادي البشير عليه الصلاة والسلام: (أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى) رواه الإمام أَحمد.
بميلاد أحمد صلوات ربي وسلامه عليه، فقد أنعم الله به على البشريّة بخيراتٍ وطيباتٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، وأولها الأمن والسّلمُ والسلام. وعلَّم النبي الأميّ الهادي البشير العالم بأسره معاني الحياة السعيدة، فلم يدْعُ إلى تقطيع الناس بالمناشير، ولم يقذف الناس بالحمم أو البراميل المتفجرة، ولم يُسقط عليهم سوى سحائب الرحمة، ولم يُحارب العقول بالِحِجر عليها، ولم يُصادر إرادة الناس، ولم يبنِ السجون للزج بالمعارضين فيها، وأطلق مبدأ التفكّر والتّدبّر في طريقِ الهداية.
لم يُنشئ عليه الصلاة والسلام مملكةً من الظلم والجور ولم يحتكر الحقيقة، بل أطلق الحق في امتلاك المعرفة للناس جميعاً الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، للعبد وللسيّد. وحقّق بين الناس العدالة ناصعةً بيضاء، واستخدم في دعوته الحبّ كأقوى سلاح يصل به إلى قلوب المجرمين الكافرين المشركين العاصين فينتزع من قلوبهم البغضاء والكراهية والأحقاد، ويُضيف إلى مجرى الحياة في دمائهم حب الأوطان والأرض والإنسان، وليُصبِح معنًا للحياة. وأخرج الظلم من النفوس، وأذاب معالم المعركة بين الجنس البشري فلم يجد أحدهم أي سبب للقتال أو الكراهية أو العداء، من أجل مالٍ أو جاهٍ أو منصبٍ أو اي متاعٍ من أمتعة الدنيا، وأصبح الدفاع عن الحق من أجل الحق هو الأساس، وتنافسوا في نشر التسامح والمحبة والأخوة في معاملاتهم ومجتمعاتهم وأوطانهم.
مولدُ الهادي البشير والسّراجِ المنير مبارك كأنّه سحائب رحمة سقطت على الكون، وغيْثٌ احتاجته البشريّة في زمن القحط العلمي والمعرفي والحضاري فتنزلت على الأرض ليرتوي منها البشر، وانتفعوا بخيراتها، وسوف يبقى الانتفاع بها ومنها مُتاحٌ إلى قيام السّاعة، حيثُ أننا نعيش في زمان.ٍ نعي جيّدًا ابتعاد موسم الشتاء الحضاري المعرفي القيَمي عن أوطاننا وعالمنا، وكيف أثّر على النسيج بين المسلمين والعرب وبين العالمين جميعًا، وبدأنا نعيش موسم الجفاف والسّنين العِجاف، حيثُ تُعاني من تبِعات ذلك أمّة العرب وأمّة الإسلام، حتى البشريّة جمعاء، وأقول قد آن للعرب خاصّة وللمسلمين عامّة، ولعموم البشر، أن يستسقوا الحضارة والنمو من تراث هذا الدّين، ومن ترِكة الأسلام الغنيّة، ومن إرث القرآن العظيم، وسنّة الهادي البشير السراج المنير محمدًا صلوات ربي وسلامه عليه، تلك هي السحائب المباركة التي تحتاجها الأرض العطشى، والتي كاد ظمأ الجهل والظلم والفوضى يقتلها، ميلاد أحمد بمثابة الانقلاب الكوني، فمن لحِقَ واستثمر هذا الميلاد الذي جاء بأعظم منهج لن يضلّ ولن يشقى، لقد قالها نبيّ الرحمة: “تركتُ فيكُم ما إن تمسّكتُم بهما لن تضِلّوا بعدي أبدا كِتابَ اللهِ وسنّتي”
كل عام وأنتم بألف ألف خير، وصباحكم من عطر ميلاد أحمد، والصلاة والسلام على نبينا وعظيمنا وقائدنا ومعلّمنا محمد ابن عبد الله.