لم تتفاجأ أسواق المال العالمية بإعلان رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي يوم الثلاثاء أن لندن اختارت الطلاق التام مع الاتحاد الأوروبي، لأنها كانت تدرك أنه الخيار الوحيد أمامها ولا تستطيع اتخاذ أي طريق آخر.
السبب الآخر في لا مبالاة الأسواق، يكمن في أنها دفعت القسط الأول من ثمن صدمة البريكست منذ الأيام الأولى حين فقد الجنيه الإسترليني نحو 20 بالمئة من قيمته، ما يعني أن جميع الأصول البريطانية فقدت نسبة مماثلة من قيمتها.
وجاء قرار ماي المتوقع، بسبب إصرار الاتحاد الأوروبي على عدم المساومة في موضوع الطلاق، ورفضه التفاوض على أي سيناريوهات للانفصال، يمكن أن تسمح لبريطانيا بالاحتفاظ بحق الدخول الحر إلى السوق الأوروبية الموحدة، دون الرضوخ وإبقاء حق حرية انتقال الأفراد والعمل.
ولا يعني ذلك أن بريطانيا أصبحت في طريقها إلى الطلاق التام عن الاتحاد الأوروبي، بل يعني أنها دخلت المخاض الطويل الشاق، الذي لا يزال مفتوحا على جميع الاحتمالات وبينها تغير الرأي العام والعودة عن القرار بعد مواجهة آلام الانفصال القاسية.
لا يمكن حتى الآن استبعاد خيار البقاء في الاتحاد الأوروبي بشكل نهائي، رغم أن الطريق أصبح مفتوحا الآن أمام تفعيل المادة 50 من ميثـاق الاتحاد الأوروبي في موعد أقرب من نهاية مارس المقبل، الذي وضعته رئيسة الوزراء.
وسوف تبدأ بعد ذلك تفاعلات وتداعيات القرار وتتكشف حقائق المفاوضات والخيارات النهائية أمام بريطانيا، وستتفجر مواقف جديدة تعصف بالرأي العام مثل توجهات البلدان المنضوية داخل المملكة المتحدة، وخطط الشركات والمصارف.
سوف تتبلور خيارات أسكتلندا وأيرلندا الشمالية من البقاء داخل المملكة المتحدة وستؤثر بشكل كبير في الرأي العام، كما ستعلن المصارف العالمية الكبرى التي تتخذ من لندن مقرا لها، عن خططها المستقبلية التي يمكن أن تزلزل الاقتصاد البريطاني وستتواصل حملات معسكري الانفصال والبقاء للتأثير على الرأي العام.
الآن فقط بدأت رحلة البريكست والتحديق في تفاصيل الخيارات والثمن الذي يتوجب على بريطانيا دفعه مقابل الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
ويبدو واضحا أن زعماء الاتحاد الأوروبي لن يتراجعوا ولن يقدموا لبريطانيا أيّ تنازلات حتى لو كان ذلك يضر بالاقتصاد الأوروبي، وستكون بروكسل مجبرة على معاقبة لندن لكي تكون عبرة لجميع الانفصاليين في بلدان الاتحاد الأخرى.
وحاولت بريطانيا طوال الأشهر الماضية مناقشة خيارات الانفصال مع بروكسل، لكنها واجهت إصرارا أوروبيا على أن عضوية الاتحاد لا يمكن تجزئتها، وأن لندن لا يمكن أن تختار ما يناسبها.
تدرك بروكسل تماما أن خروج بريطانيا بيسر وسهولة دون التعرض لكارثة اقتصادية، سيؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، بل وتمتد آثاره إلى جميع الاقتصاد العالمي.
أبرز محطـات المخـاض المؤلم، هو الخطوات التي ستتخذهـا أسكتلنـدا للانفصال عـن بـريطانيـا، بعــد أن أعطـاهـا إعــلان رئيسة الـوزراء الكثيـر مــن الـوقـود وأشعــل النــار مجددا في رماد محاولات الانفصال المزمنة.
ويبدو أن أيرلندا الشمالية قد تكون أقرب من أسكتلندا إلى الانفصال، بعد أن خمدت نار الاستقطاب الطائفي منذ سنوات طويلة. فهناك 45 بالمئة من السكان الكاثوليك المؤيدين للانفصال بشكل مطلق.
ولا يحتاج الأمر في أيرلندا الشمالية سوى إلى 5 بالمئة من البروتستانت المتحمسين للبقاء في الاتحاد الأوروبي لتنقلب المعادلة وتنفصل البلاد، بل وربما تنضمّ إلى جمهورية أيرلندا. وقد يتبع ذلك تململ ويلز والمطالبة بالانفصال لتبقى لندن عاصمة لإنكلترا فقط، لأن الحياة في جبل طارق ستتوقف إذا قطعت اتصالاتها مع إسبانيا.
أما المحطة الأخرى الكبيرة فهي الثمن الباهظ الذي ستدفعه من لندن إذا فقدت المصارف جواز الدخول المالي إلى الاتحاد الأوروبي، خاصة أن حي المال هو الأكبر في العالم بلا منازع وهو أكبر مساهم في الناتج المحلي البريطاني.
ينبغي أن نذكر أن أكبر المصارف الأوروبية والأميركية والآسيوية، بل ومن جميع أنحاء العالم تتخذ من لندن مقرا لأكبر عملياتها المصرفية. وقد بدأ الكثير منها بالإعلان عن خطط أولية للانتقال إلى دبلن أو باريس ومدريد وبروكسل ولوكسمبورغ.
سوف تتسارع وتتبلور خطط تلك المصارف في الأشهر المقبلة. ويعني ذلك أن لندن قد تفقد مئات الآلاف من الوظائف المباشرة في القطاع المالي، ثم ينتقل مفعول أحجار الدومينو إلى الوظائف المرتبطة بها والخدمات والمقاهي والمطاعم والأسواق.
قد يؤدي ذلك في أحد التداعيات إلى خلوّ ما يصل إلى نصف مليون وحدة سكنية، ما يعني انهيارا حتميا لقطاع العقارات وتحول بعض أحياء لندن إلى مدن أشباح.
بوادر ذلك بدأت بالظهور أمس حين قال ستيوارت غاليفر الرئيس التنفيذي لبنك أتش.أس.بي.سي إن البنك سينقل الموظفين المسؤولين عن تحقيق نحو 20 بالمئة من إيرادات المعاملات المصرفية في بريطانيا إلى باريس “وسننتقل خلال عامين تقريبا عندما يصبح الانفصال البريطاني فعليا”.
وقد أكد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أمس أن “عواقب تفعيل المادة 50 في معاهدة لشبونة، ستكون كبيرة على بريطانيا وشركائها وبلدان الاتحاد الأوروبي برمته”.